سورة القيامة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القيامة)


        


{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)} [القيامة: 75/ 1- 15].
أقسم أنا اللّه بيوم القيامة، و(لا) إما استفتاح كلام، أو صلة زائدة، وأقسم بالنفس اللوامة صاحبها أو غيرها على تقصيره في ترك الطاعة ونحوه، أنكم سوف تبعثون وتحاسبون يوم القيامة.
وجواب القسم محذوف، لدلالة ما بعده عليه. والقسم بالشيء إشارة لتعظيمه وتفخيمه. والنفس في الآية: اسم جنس لنفوس البشر.
وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء، فإنها لوّامة، مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت.
أيظن الإنسان (الكافر) ألا بعث وألا نجمع عظامه؟! وهذا تقرير وتوبيخ. وهذه الظنون أو الأقوال كانت لكفار قريش. بلى: (وهي إيجاب ما نفي) أي بلى نجمعها قادرين على جمعه وإعادة تركيب عظامه وأعضائه، وتسوية بنانه، أي أطراف أصابعه.
أي إن العظام والأعضاء تجمع ويسوّى أكثرها تفرقا، وأدقها أجزاء، وهي عظام الأنامل والمفاصل، وهذا كله عند البعث والنشور من القبور.
ويسأل الإنسان الكافر وغيره سؤال استبعاد وإنكار واستهزاء وتعنّت متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل. والإنسان: اسم جنس، وهو ابن آدم. بل (وهو إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر) يريد الإنسان في الواقع تغليب شهواته، ومداومة فجوره أي فسقه أو كفره، بتكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي القيامة.
وعلامات القيامة ثلاث هي: إذا دهش البصر وتحيّر من شدة أهوال القيامة، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود، كما يعود بعد الخسوف في الدنيا، وتبدد أو زال ضوء الشمس والقمر جميعا، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، أي إن معالم الكون تتغير كلها.
كلا (كلمة ردع وزجر) لا ملجأ ولا معتصم من اللّه يعصمكم يومئذ، وإنما إلى اللّه ربكم المرجع والمصير، في الجنة أو في النار.
وفي ذلك اليوم يوم القيامة، يخبر الإنسان أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شرّ، قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها.
والإنسان عالم بنفسه، لذا قال اللّه تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ} أي بل (وهو يفيد الإضراب بمعنى الترك، لا بمعنى إبطال القول الأول) إن الإنسان بعقله وفطرته حجة، وشاهد مبصر على نفسه، عالم بما فعله، فهو حجة كافية بينة على أعماله، ولو اعتذر وأنكر، وحاول تقديم المعاذير أي الأعذار، أي ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. قال مجاهد: معاذيره: حجته، وقال ابن كثير: والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 6/ 23]. وكقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)} [المجادلة: 58/ 18].
إن هذه الآيات التي يراد بها إثبات يوم القيامة تدلّ على عظمة اللّه وقدرته الخارقة، فهو سبحانه قادر على جمع عظام الإنسان المفتتة في أي مكان، وأعضائه المشتتة في أي موضع، وهذا في حدود العقل البشري مستبعد، لكن في مجال علم اللّه تعالى وقدرته أمر سهل يسير، غير مستبعد، بل هو واقع حتما.
والمفاجأة بالحقائق أمر صعب على النفوس، فيفاجأ المرء بتاريخه الطويل الذي سجّله في الدنيا، وتكون الكارثة أو النجاة، فإما إلى نار دائمة الاشتعال والتعذيب للكافرين، وإما إلى جنة دائمة النعيم والفضل الإلهي.
ولا مجال للمكابرة أو الاعتذار عن شيء فعله الإنسان، فلا يقبل العذر مهما كان، ويصطدم الشخص بواقعه الذي هو أعلم به، وهو خير شاهد وحجة على نفسه، حتى ولو أنكر أو اعتذر.
وأي سبيل للإنكار؟ وأعمال الإنسان مدوّنة عليه بوساطة ملك اليمين وملك الشمال، لأن الكتابة لا سبيل لمحوها أو إنكارها، واللّه أعلم بكل شيء صغير أو كبير، من كل مكتوب أو مقروء أو مقالة.
حفظ القرآن وحال الناس في الدنيا والآخرة:
إنزال القرآن الكريم بالوحي على قلب النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم شيء عظيم لا يعادله شيء في الدنيا، لذا حرص النّبي على تلقّي الوحي وعلى حفظه ومتابعته، وكان يردّده في مبدأ الأمر أثناء التّلقي، فأرشده اللّه تعالى إلى ضرورة الإصغاء له أولا، ثم يكون التثبيت والحفظ في القلب من فعل اللّه تعالى. أما منكر القيامة والبعث فهو معرض عن آيات اللّه تعالى ومعجزاته، وسبب إنكاره البعث: هو حبّ الدنيا، وترك العمل للآخرة.
والناس في الآخرة فريقان: فريق المؤمنين وفريق المشركين الذين يترقبون نزول دواهي العذاب بهم، وهذا ما عبّرت عنه الآيات الآتية:


{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)} [القيامة: 75/ 16- 25].
أخرج البخاري ومسلم وأحمد، عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أنزل الوحي، يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل اللّه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} الآية.
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، حرصا منه على القرآن الموحى به إليه، يبادر إلى حفظه وترداده، ويسابق الملك في قراءته، ويحرّك شفتيه ولسانه بالقرآن، إذا أنزل عليه، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، فنزلت هذه الآية.
ومعناها: لا تحرّك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت منك، كما جاء في آية أخرى: {فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 20/ 114].
إن علينا جمعه في صدرك، حتى لا يذهب عليك منه شيء، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم. فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السّلام، فاستمع له وأنصت، ثم اقرأه كما أقرأك، وكرره حتى يرسخ في ذهنك. والقرآن: مصدر كالقراءة.
ثم إننا بعد حفظه وتلاوته، نفسّر لك ما فيه من الحلال والحرام، ونبيّن أو نوضّح لك ما أشكل منه، ونلهمك معناه كما أردناه وشرعنا، أي علينا تبيينه وتحفيظه لك.
إن هذه الآيات الأربع اشتملت على أحوال ثلاث: هي جمعه في صدره وحفظه، في الآيتين الأولى والثانية، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل، في الآية الثالثة، وتفسيره وبيانه في الآية الرابعة. ثم أوضح القرآن الكريم حال منكر البعث، فوبّخه وقرّعه على إنكار البعث، وبيّن له سبب الإنكار، وهو:
كلا (كلمة ردع وزجر) أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث، فإن الذي يحملكم على التكذيب بيوم القيامة، ومخالفة ما أنزله اللّه تعالى على رسوله، من الوحي الحق والقرآن العظيم، وسبب إنكاركم، هو محبّتكم دار الدنيا العاجلة، وتشاغلكم عن الآخرة، وترك العمل لها.
وهذه الآية {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ} رجوع إلى مخاطبة قريش، في ردّهم الشريعة، أي ليس ذلك كما تقولون، وإنما أنتم قوم غلبتكم الدنيا بشهواتها، فأنتم تحبّونها حبّا تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها.
ولما ذكر اللّه تعالى الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها.
وجوه المؤمنين في الجنة حسنة بهية، مشرقة مسرورة، ترى ربّها عيانا، ووجود الفجّار الكفّار في النار عابسة كالحة كئيبة، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة، تكسر فقار الظهر. وجمهور العلماء على جواز رؤية اللّه تعالى في الآخرة، من غير تحديد بمكان معين.
جاء في الصحيحين عن جرير، قال: نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم ترون ربّكم، كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، ولا قبل غروبها، فافعلوا».
وللآية نظائر منها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 80/ 38- 42].
لقد تكفّل اللّه لنبيّه ثلاثة أمور لحفظ القرآن: وهي جمعه في صدره عليه الصّلاة والسّلام، وتلاوته، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والمشكلات.
وسبب إنكار المشركين البعث والجزاء: هو إيثار الدنيا والتّمتع بنعيمها، وترك العمل والاستعداد للآخرة، وهذا سوء اختيار، لأن نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم.
ورؤية أهل الإيمان ربّهم في جنان الخلد، وحرمان الفجّار (الكفّار والعصاة) منها أمر ثابت مقرر لا شك فيه بدلالات الكتاب والسّنة، جاء في حديث مسلم عن صهيب: أن رؤية اللّه عزّ وجلّ هي الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس: 10/ 26].
وتكون وجوه الكفّار الفجّار في الآخرة كالحة كاسفة عابسة، مستيقنة أنه سيحلّ بها عذاب شديد، وداهية عظيمة.
التّفريط وعاقبته:
الناس فريقان: إما عصاة أشرار، وإما طائعون أبرار، وقد أنذر اللّه تعالى جميع الناس قبل أن يفجأهم الموت، وتطوى صحائف الأعمال، فيبادروا إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وبعد الموت الذي يستوي فيه الكل، يأتي البعث حتما في وقت لابد منه، من أجل أمرين: ألا وهما إقامة العدل المطلق بين الخلائق، بالجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى المطيع والعاصي، وبيان إنجاز وعد اللّه تعالى وممارسة قدرته، فكما أن اللّه تعالى قادر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في منطق البشر. قال اللّه تعالى زاجرا ومنذرا من ملاقاة أهوال القيامة:


{كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)} [القيامة: 75/ 26- 40].
زجر اللّه تعالى قريشا وأمثالها بأنهم متعرّضون لموطن من مواطن الهول، وأمر من اللّه تعالى لا محيد لبشر عنه، وهو حالة الموت والمنازعة التي كتبها على كل حيوان.
ومضمون الزجر: لا تستطيع أيها الإنسان التكذيب بما أخبرت به، حين تجد الحقيقة عيانا أمامك، وهي مفارقة الحياة وتجرّع كأس الموت. فإذا بلغت روحك تراقيك الموازية للحلاقيم، وهي جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النّحر والعاتق، ولكل أحد ترقوتان، والأفراد في الكثيرين جمع، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزاع الروح. يسّره اللّه تعالى علينا.
وقيل حينئذ: من الطّبيب المعالج الذي يرقي المحتضر ويشفيه، وأيقن هذا الشخص الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا والأهل، لنذكر جميعا هذه الحالة. والمعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبّهوا إذا بلغت الحلقوم أو أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله، والموت وشدائده.
وفي حالة الاحتضار التفّت ساق الإنسان على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، أي ماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، واجتمع عليه أمران:
الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهّزون روحه.
وتساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربّك، فإما إلى جنّة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار حامية دائمة الإحراق.
وعمل هذا المحتضر المعذب بموته: هو أنه في الدنيا لم يصدق بالرسالة النّبوية ولا بالقرآن، ولا صلّى لربّه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذّب بالرسول وبما جاء به، وتولّى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله بطرا أشرا، يتبختر ويختال في مشيته، افتخارا بتقصيره. لقد جمع بين إهمال العقيدة الصائبة، وبين إهمال الفرائض، وبين سوء الخلق بالتكبّر والتجبّر والتطاول. وهذا دليل واضح على أن الكافر يستحقّ العقاب بترك الصلاة والزكاة، كما يستحقه بترك الإيمان الذي هو أساس صحة الصلاة.
وهذا العقاب جدير به هذا الجاحد، كما قال تعالى: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)} أي ويل لك ثم ويل، أولى لك الهلاك، وهو وعيد ثان، ثم كرر ذلك تأكيدا، والمراد:
أولى لك الازدجار والانتهاء، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا. ومنه قوله تعالى: {فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 47/ 20- 21].
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)} وعيد على وعيد، زعم أن هذا أنزل في عدو اللّه أبي جهل، ذكر لنا أن نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخذ بمجامع ثيابه، فقال: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)} فقال عدو اللّه أبو جهل: أيوعدني محمد؟ واللّه ما تستطيع لي أنت ولا ربّك شيئا، واللّه لأنا أعزّ من مشى بين جبليها.
وأخرجه النّسائي عن ابن عباس عن قوله: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)} أشيء قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قبل نفسه أم أمره اللّه به؟ قال: بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله اللّه.
ثم استدلّ اللّه تعالى على البعث بدليلين:
الأول- أيظنّ الإنسان أن يترك في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة.
الثاني- أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من مني يراق في الرّحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم عالقة، ثم مضغة، أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا سويّا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن اللّه وتقديره؟ أليس الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث، كما كانت عليه في الدنيا، بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء. وقوله: {أَلَيْسَ ذلِكَ} توبيخ وإقامة حجة.
وقوله تعالى: {فَخَلَقَ فَسَوَّى} خلق: قدّر بقدر محكم بأن جعلها مضغة مخلّقة.
و{فَسَوَّى} عدل أركانه وأحكم أمره، وأكمل نشأته، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة. وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه.